ماذا تعرف عن مغسلة الأموال في العراق؟

ماذا تعرف عن مغسلة الأموال في العراق؟

مشاريع تُفتتح ليس بدافع الربح، وإنما لأهداف أخرى، قد يكون غسيل الأموال أهمها

 

فجأة.. ارتفعت أعمدة البناية المجاورة لمنزلي الواقع على الشارع الرئيس في إحدى مناطق بغداد. جُهِّزت بأحدث المواد والمعدات التي وكما ظهر بداية لتشييد مطعم جديد، وضعت اللافتة الخارجية ورتبت الأمور وكان اليوم الموعود.

 

احتفال ضخم حضرته أكثر من 30 شخصية مشهورة، فرش لها البساط الأحمر وأحيطت بعدد كبير من المصورين. ومن ثم بدأ المطعم رحلته

 في العمل.. موظفون وموظفات.. عاملون وعاملات.. إعلانات ممولة.. ومشاهير لتصوير الجلسات الصباحية والمسائية.

 

فجأة.. ودون سابق إنذار..

 

انطفأت الأضواء.. ورُفع البساط الأحمر.. وسُرّح العاملون.. ونُقل الأثاث.. وألقيت القطعة الخارجية على قارعة الطريق.

وانتهت القصة..

 

هذا المشهد يكاد يكون أحد المشاهد الأكثر تكراراً في العراق اليوم.. بغض النظر عن طبيعة المشروع.. مطعماً أو كافيه أو شركةً للاستيراد والتصدير.

 

مشاريع تُفتتح ليس بدافع الربح، وإنما لأهداف أخرى، قد يكون غسيل الأموال أهمها.

 

ولمن لا يعرف ما المقصود بـ(غسيل الأموال) فإنه عملية معالجة الأموال المستحصلة بطرق غير مشروعة بما يسهم في إعطائها الصفة الشرعية وذلك من خلال دمجها ضمن نشاط تجاري لمدة معينة ومن ثم يسترجعها صاحبها بعد أن أنفق جزءا منها في نشاطه التجاري المشبوه وكأنها كانت جزءا من أرباح ذلك النشاط.

 

هذه الحالة باتت ملازمة للنشاط الاقتصادي في العراق بمساحة كبيرة، إذ أن ارتفاع كميات الأموال المتداولة في السوق وعدم السيطرة الحكومية على المنافذ الحدودية وضعف الرقابة على الأنشطة التجارية أسهمت بشكل كبير في شيوع هذه الظاهر، وبات العراق -للأسف- مغسلة جيدة للأموال "القذرة" سواء أكانت هذه الأموال مأخوذة من الدولة العراقية أم من الخارج.

 

فالظروف ملائمة جداً لشيوع هذا النوع من النشاط، والأمور مؤاتيه.. ولذلك كان العراق ولمدة طويلة ضمن القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي.

 

حالات الغسيل وأنواعه:

 

ولتعزيز موقف العراق ضمن هذا الملف فقد تم تأسيس مكتب مكافحة غسيل الأموال وجرائم الإرهاب ضمن هيكل البنك المركزي عام 2007 قبل أن يستقل المكتب بشخصية معنوية وفق قانون مكافحة غسيل الأموال وجرائم الإرهاب رقم (39) والصادر عام 2015.

 

هذا المكتب الذي من المفترض أن يشرع بمتابعة النظام المالي في العراق وحماية هذا القطاع من جرائم غسيل الأموال كلف بإعداد تقارير دورية متعلقة بالنشاط المالي بالتعاون مع الجهات الرقابية والمؤسسات المالية بما يحدد حالات الاشتباه ويكون بالتالي أمر متابعتها منوط بالمكتب لتأخذ طريقها إما إلى المحاسبة القانونية أو الحفظ.

 

وبمقارنة إحصائيات التقارير الصادرة عن المكتب فإن الحالات المعروضة عليه تصاعدت بين 2016 والعام 2022، ففي حين لم تتجاوز الحالات المعروضة أمام المكتب (82) حالة عام 2016 بلغت (597) عام 2022 وكما يبيّن الجدول:

 

عدد الحالات المعروضة على المكتب:

العام2016201920212022
الحالات82400649597


 

أما الجهات المبلغة عن هذه الحالات فكانت في أغلبها تنتمي للمؤسسات المالية من مصارف وشركات صيرفة، تليها جهات إنفاذ القانون.

ومع اتساع نشاط المكتب بدأ يكون هناك تعاون مع الجهات النظيرة في الدول الأخرى، لاسيما تلك التي تتمتع بتعامل مالي مع العراق أو قريبة منه جغرافياً. وهنا تكون الطلبات للتأكد من بعض الحالات إما صادرة من العراق أو واردة إليه من إحدى تلك الدول.

 

وتُظهر الأرقام أن تركيا تتمتع اليوم بموقع مهم بين تلك الدول من حيث عدد الحالات المشتبه بها. وكما يظهر الجدول الآتي:

 

العام201620192022
عدد الطلبات الصادرة1254148
الدولة الأعلىلبنانتركياتركيا
عدد الطلبات الواردة4186
الدولة الأعلىلبنانالأردنتركيا

 

وبطبيعة الحال فإن تلك الطلبات يتم التعامل معها من قبل المكتب، والملف الذي يكتمل العمل عليه يتم إحالته إما إلى القضاء أو الحفظ في حال عدم وجود مؤشرات كافية للاشتباه، ويظهر الجدول أدناه أن أكثر حالات الإحالة الموجهة للمكتب تأخذ طريقها باتجاه الحفظ للسبب أعلاه، وكالآتي:

 

العام201620192022
إحالة للادعاء العام9%8%10%
حفظ الملف23%26%44%

 

أما النسبة المتبقية من الحالات فتشير التقارير إلى أنها تبقى "قيد الإنجاز". وتحتل العاصمة بغداد الصدارة بين بقية المحافظات في حالات الاشتباه التي تعرض على المكتب، وذلك مرده لوجود أغلب المؤسسات المالية الرئيسة والشركات الكبرى فيها.

 

وتشير التقارير إلى أن عدد المعاملات المشتبه فيها في بغداد كان (49) معاملة عام 2016 فيما ارتفع هذا الرقم في العام 2019 ليبلغ (245) معاملة حتى وصل عام 2022 لـ(361) معاملة.

 

هذا الارتفاع المضطرد في الأرقام بين الأعوام 2016 و 2022 يؤشر لقضيتين مهمتين؛ الأولى: أن المكتب مكافحة غسيل الأموال وجرائم الإرهاب بدأ ينشط في عمله، والثانية أن ملف غسيل الأموال بدأ يتعاظم في العراق بشكل متزايد في مرحلة تفشي وباء كورونا وما بعده، بعد أن توقف التنقل بين دول العام ما أوقف حركة المال بين الدول وساهم في إبقاء المال المستحصل عليه بطرق غير مشروعة داخل العراق بعد أن كان يتم تهريبه إلى الخارج، ثم جاءت أزمة التباين في سعر صرف الدولار بين السوقين الرسمي والموازي بما جعل من سوق بيع العملة سوقاً رائجة وزاد من عدد المعاملات المالية المشبوهة في العراق.

 

خطر المؤسسات السلعية:

 

يشير مصدر مطلع في مكتب مكافحة غسيل الأموال إلى أن التحدي الأكبر في ملف غسيل الأموال يتمثل بـ(الأعمال المهنية) أو القطاع السلعي، إذ أن القطاع المالي المتمثل بالبنك المركزي والمؤسسات المالية وديوان التأمين وشركات التأمين بات إلى حدٍ ما مسيطر عليه.

غير أن القطاعات السلعية من ذهب وعقار ومعارض بيع السيارات تعد اليوم القطاع الأكثر تعقيداً في ملف جرائم غسيل الأموال في العراق، كونها غير خاضعة لجهات بعينها كحال المؤسسات المالية التبي تخضع بالنهاية للبنك المركزي.

 

وخلال السنوات الأخيرة – التي أعقبت جائحة كورونا- بدا أن القطاعات السلعية في العراق تشهد تزايداً في قيمتها بشكل مضطرد وغير مسيطر عليه حتى تضاعفت قيمتها لعشرات الأضعاف.

 

ويربط مراقبون بين هذا التنامي غير المسبوق لتلك القطاعات وحالة الفساد المالي في العراق، والتي مكّنت شخصيات من استحصال مبالغ كبيرة دون وجه حق، ولما كان من الصعوبة بمكان نقل هذه الأموال إلى الخارج كما كان عليه الأمر في السنوات السابقة بات أصحابها يحرصون على إبقائها في الداخل مع إخضاعها لعملية غسيل لتبرير امتلاكهم لها بعد سنوات.

 

ولما كان الذهب وقطاع العقار هما القطاعان الأكثر موثوقية في العراق والاستثمار الأكثر أمناً فقد وجدت تلك الشخصيات ضالتها في هذين القطاعين لغسل أموالهم. ويقدّر مراقبون قيمة الأموال التي تم غسلها –إن صح التعبير-  في هذه القطاعات بأكثر من 10 مليارات دولار وهو رقم قد يفوق كل المبالغ المسجلة كحالات مشبوهة في التعاملات المالية المبلغ عنها في مكتب المكافحة.

 

وعلى الرغم من قرار مجموعة العمل المالية بإخراج العراق من القائمة السوداء للدول التي تعاني من مشاكل في ملف غسيل الأموال وجرائم الإرهاب وما سيترتب على هذا القرار من مزايا ضمن قطاعات الاقتصاد المختلفة لاسيما طمأنة رؤوس الأموال الأجنبية للواقع الاقتصادي العراق، إلّا أن واقع الحال يكشف بما لا يقبل الشك أن غسيل الأموال يعد اليوم إحدى أخطر الجرائم التي يعاني منها اقتصاد العراق وبات يعرف كيف إيجاد الفرص والمنافذ لنشاطه على الرغم من المتابعة الحثيثة لتلك النشاطات الأمر الذي يعزوه مراقبون لارتباطه بالواقع السياسي للبلاد والذي يعاني اليوم من تفشي الفساد المالي بشكل كبير الأمر الذي يوفر الأموال التي تستوجب الغسيل لاكتساب شرعيتها. ولنتخيل أن هناك (450) مليار دولار تم سرقتها من موازنات الدولة العراقية بين عامي (2003-2015) فقط فكيف سيتم مع ملف إكسابها للشرعية إلّا عبر عمليات الغسيل تلك؟.