عقود على التغيير.. والعراق يأبى أن يفارق قمة الفساد المالي والإداري

عقود على التغيير..  والعراق يأبى أن يفارق قمة الفساد المالي والإداري

العلاقة عكسية بين الفساد والاستقرار، إذ بتزايد أحدها يتراجع الآخر وهكذا.. وهذا ما يثير المخاوف في الحالة العراقية.

على أنغام الموسيقى.. وفي إحدى النوادي الليلية.. ظهر ذلك الشاب العشريني وهو ينثر آلاف الدولارات عن اليمين والشمال..

وهناك على الجانب الآخر كان من يفتح رزم النقود وينثرها في السماء وكأنها أوراق بلا قيمة لمجرد أن ذكر اسم مدينته على لسان المغني الذي يحيي الحفل..

في مكان آخر كان هناك من يعلن عن افتتاح أكبر مكان لبيع الذهب في العراق مستعرضاً قطع ملابس من الذهب الخالص، تصل قيمة القطعة منها لمئات الملايين من الدنانير..

بالمقابل يكشف صاحب إحدى معارض بيع السيارات في العراق عن تزايد مبيعاته من سيارة الشوفرليه موديل (تاهو) بشكل كبير، حتى بلغ عدد ما يبيعه في معرضه لوحده (5-4) سيارات في اليوم الواحد.

ويرى صاحب المعرض أن انخفاض سعر السيارة هو السبب في حجم المبيعات تلك، لاسيما وأن قيمتها لم تعد تتجاوز الـ(120) مليون دينار!

بمقابل كل تلك الأخبار.. تعلن الحكومة أن معدل الفقر في العراق قد بلغ (22%)، بما يصل لأكثر من (10) ملايين مواطن، فيما صور الباحثين عن لقمة العيش في أماكن الطمر الصحي تملأ محركات البحث.

هذه الصور المتناقضة لواقع الحال في العراق تثير اليوم تساؤلات كبيرة عن مستويات الفساد المالي والإداري، وهل هناك من أفق لإيجاد حلول تضمن عدالة توزيع الثروة؟

فبين الصورة الأولى والثانية بون شاسع يصعب معالجته ولا يبدو أن خطط النزاهة التقليدية قادرة على إيقاف عجلة الفساد ومعالجة الهوّة الشاسعة بين طبقات المجتمع، لاسيما وأن الفساد اليوم متعدد الأشكال متنوّع القطاعات.

 

غطاء مصرفي

 

وأنت تتنقل في طرقات بغداد وأزقتها لابد وأن يلفت انتباهك عدد مراكز المصارف وفروعها المنتشرة بشكل كبير، حتى لتظن لوهلة أنك في واحدة من أكثر المدن نشاطاً على المستوى الاقتصادي.

لكن حجم الدخل القومي للعراق والذي يستحصل في جلّه من بيع النفط يكشف واقع الحال، ويثير العديد من التساؤلات عن طبيعة النشاط الاقتصادي الذي من الممكن أن تمارسه تلك المصارف.

ولم يكن الأمر مثيراً للاهتمام حتى ألزم الفيدرالي الأمريكي العراق بشراء ما يحتاجه من عملة الدولار عبر منصة يشرف عليها بنفسه، حينها ظهرت الحقيقة. فتبيّن أن العديد من تلك المصارف ما هي إلاّ واجهات يتم عبرها تهريب عملة الدولار للخارج.

آخر الأخبار المرتبطة بهذا الموضوع تشير إلى أن (28) مصرفاً من أصل (72) حظر من التعامل بالدولار الأمريكي من قبل البنك الفيدرالي، وهذا رقم كبير جداً على دولة بحجم العراق.

هذه المصارف بحسب الفيدرالي الأمريكي أسهمت في عمليات تهريب للدولار خارج العراق بشكل يخالف التعليمات المتفق عليها مع بغداد. بل إن بعض تلك المصارف كان يتستر على عمليات كانت تقوم بها مصارف أخرى.

القطاع المصرفي هو أحد القطاعات الاقتصادية التي تشهد حالة من الفساد غير المسيطر عليه والذي يكبّد اليوم الدولة العراقية خسائر تقدر بمليارات الدولارات.

ولنا أن نتخيّل أن مصرف واحد –مصرف الهدى- هرّب خلال عام واحد أكثر من (6) مليارات دولار، فكم يبلغ حجم ما هرب من العراق.

 

ما خفي أعظم

 

حجم الفساد في العراق ومجالاته أمراً محيّراً ويفوق الخيال في كثير من الأحيان، لاسيما وأنه بات جزءاً من مسار عمل العديد من القطاعات بما فيها الجهات الرقابية التي من المفترض أن تكون جزءاً من عملية مكافحة الفساد.

إذ تشير تقارير صحفية نشرتها صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى أن برامج الأمم المتحدة التي من المفترض أن تكون جزءاً من عملية البناء والتطوير والتأهيل في العراق باتت اليوم مخترقة من شبكات الفساد المالي والإداري.

تقول الصحفية سيمونا فولتين عن الفساد في برنامج الأمم المتحدة للتطوير والتنمية في مقالها على صفحات الغارديان البريطانية: إن "الفساد متخفٍ بشكل جيد، فالجميع لديه ما يخسره. الجميع لديه مصلحة، لذلك من الصعوبة الكشف عن تبعات الموضوع وتفاصيله".

هذه النتيجة توصلت لها الصحفية فولتين بعد أشهر من التقصّي المضني والمتعب إثر صعوبة الحصول على المعلومة، هذا ونحن نتحدث عن مبلغ كبير يتجاوز الـ(1.5،) مليار فكيف بملفات الفساد الأقل حجماً؟

إذ اكتشفت الصحفية أن هناك عمليات بيع للمناصب وتنفيذ لمشاريع –بشكل مخلّ- شكلية دون مضمون حقيقي، الأمر الذي يجعلك إما أمام شخص منتفع أو موظف خائف على وظيفته.


 

مرتبة متقدمة

 

ما تقدم جعل العراق في مقدمة الدول الأكثر فساداً والأقل شفافيةّ، فالبلد لم يغادر مكانه بين الدول الأكثر فساداً على مستوى العالم منذ أكثر من ثلاث عقود، فيما تتصاعد مكانته في سلم الفقر عالمياً.

ويكشف تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي صدر مؤخراً أن العراق لم يشهد تغيّراً كبيراً في تعامله مع ملف الفساد، وأنه احتل المرتبة (154) بين (180) دولة ضمن مؤشر المنظمة للشفافية والنزاهة.

بمقابل هذه الإحصائيات تتزايد المخاوف من انعكاسات خطيرة على واقع الحال في العراق، لاسيما الملف الأمني والسياسي. فقضية النزاهة والشفافية لابد وأن ينجم عنها اضطرابات سياسية وأمنية ومجتمعية في وقت من الأوقات. وهذا ما حصل في أحداث تشرين 2019.

إذ أن العلاقة عكسية بين الفساد والاستقرار، إذ بتزايد أحدها يتراجع الآخر وهكذا.. وهذا ما يثير المخاوف في الحالة العراقية.

هذه العلاقة يمكن رصدها بسهولة في دول الذيل في قائمة منظمة الشفافية للدول الأكثر نزاهة على مستوى العالم، فالعامل المشترك بين الصومال والسودان وإرتيريا وغيرها هو ضعف الأمن الأمر الذي يرفع من مؤشرات الفساد المالي فيها.

بالمقابل تكاد تكون الحكومات المتعاقبة عاجزة عن معالجة هذا الملف، لاسيما وأنه متداخل مع الملف السياسي بشكل كبير، الأمر الذي يعطّل أي حراك لمعالجة واقع الحال السيء الذي تعيشه البلاد.

فالعديد من ملفات الفساد التي كشفت وتكتشف يصار إلى تسويتها سياسياً بعيداً عن أروقة المحاكم، حتى فقد المواطن ثقته بأي إجراء يتخذ ضمن هذا الصدد، وصارت أساليب معالجة الفساد من قبيل الحملات الإعلامية لا أكثر.

فمن سمع عن الاستراتيجيات التي تبنتها الدولة العراقية لمعالجة الفساد، ومن عرف مضامينها..؟

تشير الإحصائيات إلى أن العراق فقد ما بين العامين 2012-2018 أكثر من (300) مليار دولار –هذا المعلن- تم تهريب كميات كبيرة منها إلى الخارج، وإثر التشديد العالمي الذي تبع أزمة كورونا ومن ثم تحديث ضوابط الفيدرالي الأمريكي في التعامل مع القطاع المصرفي العراقي بدأت تتجه تلك الأموال إلى الداخل العراقي الأمر الذي كان له أنعكاساته على السوق العراقية، لترتفع قيمة الأصول ضمن هذا القطاع وبشكل كبير جداً.

سوق العقار على سبيل المثال تضاعف لما يجاوز الـ(%400)، أما قطاع الفنادق والمطاعم فنشط بشكل كبير، فيما بدأ العراق يحتل مرتبة متقدمة بين الدول ضمن سوق السيارات العالمي، إذ كشفت وزارة التخطيط العراقية في آخر إحصاءاتها النقاب عن حجم هذا السوق الذي تنامى بشكل كبير جداً.

إحصائية الوزارة التي تعود للعام 2021 توضّح أن عدد سيارات القطاع الخاص في العراق تجاوز الـ(7,400,000) سيارة بنسبة زيادة تجاوز الـ(%6) عن العام الذي يسبقه.

وبطبيعة الحال هذا الرقم اليوم تزايد وتضاعف على المستويين الكمي والنوعي.

واقع حال الفساد المالي في العراق يمكن رصده على كل القطاعات، فهو متشعب متداخل مع بقية القطاعات وعلى المستويين الأفقي والعمودي.. دون أن يكون هناك أفق لمعالجته.

إن مراجعة سريعة للدول التي عانت سابقاً من مشكلة فساد وعالجتها تشير إلى أن أي تحرّك ضمن هذا الملف لابد وأن تتوافر فيه إرادة حقيقية وعلى المستويين الرسمي والشعبي ومدعومة بإرادة دولية تضمن التعامل مع ملفات الفساد والقائمين عليه بحزم لا يحابي هذه الجهة أو تلك فيحاصر مسؤولي الفساد في الداخل والخارج.

كذلك تفعيل قانون (من أين لك هذا؟) لمتابعة حالات الإثراء غير المشروع والبحث عن مصادر تمويلها.

فيما لابد وأن تكون هناك مراجعة لسجلات الحسابات الختامية للحكومات المحلية والمركزية لمعرفة أبواب صرف ميزانيتها والتأكد من سلامة موقفها القانوني.

وسوم